التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الوجوه التسعة

سيظنون بأن قد مسها جني أو شيطان، سيخنقونها بدخان البخور، وسيقطرون الزيت المقدس في عينيها نصف المغمضتين التي يتوارى خلفهما سواد بؤبؤيها، لكن لن يتراءى لأي منهم بأن المسخ الذي أمامهم كان الأقرب إلى الحقيقة منهم جميعاً.
                               
*.*.*

 شجرة التين التي تقابل النافذة تُأرجح دوائر الظلال التي رسمتها الستارة على جسدها الهزيل. تتمدد على سريرها الجديد الذي ألفته مدعية الموت. ماذا ستقول لهم عندما تستقيظ؟ كيف ستشرح لهم بأن عيناها قد تحولتا إلى ثقب أسود باستطاعته ابتلاع حياة بأكملها؛ بألوانها ووجهها وأسمائها وحروف علتها. كيف ستشرح لهم بأن للخوف يدان قادرتان على دفعك للركض، وبأن له رائحة رطبة، وطعم مر يتسلل إلى كل خلايا جسمك قبل أن يحط أخيراً في فمك؟

*.*.*
(يدور المشهد بالعرض البطيء، تتحرك الشفاه دون أن تصدر صوتًا سوى الصمت، تصدح سوناتا القمر لبيتهوفن في الخلفية): تركض عارية القدمين باتجاه حرش القرية، أصابع يدها الطويلة تغطي أذنيها، رئتاها تدفعان الهواء إلى داخل صدرها، تتوقف، تدير رأسها لتحدق بالفوضى التي تبخرت خلفها وتعود إلى الركض مرة أخرى.


*.*.*

الشمس تتسلل  بين أغصان الأشجار والظلال تتكسر بين الأجساد التي عُلقت عليها. عيناها اللتان غارتا من التعب والبكاء تملئهما الدهشة الآن.

اعتادوا القول -دون أن يعوا- بأن الأموات لا يغادرون عالمنا قط وبأنهم يتركون أجسادهم على قارعة القبور ويدورون في السماء بأرواحهم التي تعرت من أجسادهم الثقيلة لتعود إلى رحم الأرض.  كانت تهز رأسها وتتخيل بأنها لو كانت بخفتهم لاتخذت من الغيوم مسكناً لها -وربما- هناك لوجدت حصتها من السعادة الضالة التي لا تنفك وتبحث عنها.
*.*.*
يتجمعون حولها, ويقرأون نصاً من إنجيل مرقس, يرددون بصوت موحد يملئه التضرع "كان مسكنه في القبور ولم يقدر أحد أن يربطه ولا بسلاسل".
كان مرقس يتكلم عن الشيطان في آيته، لكنها وهي مستلقية على سريرها المعدني في غرفة المشفى التي تقبع في مكان ما على هذا الكوكب، ظنت بأنه كان يكلمها هي، لا الشيطان.

*.*.*

هم لم يكونوا في حرش القرية، ولم يروا الأشجار التي تحولت إلى مقابر، ولم يروا السلاسل الحديدية التي حملت ثقل الأجساد التي فارقتها أرواحها. ولم يمضوا أحد عشر يوماً في حرش مهجور سكنته تسع جثث معلقة، ولم يتنفسوا هوائاً ينضح برائحة الموت والعفن، هم لم يروا الوجود بحقيقته الفظة. 

*.*.*

ستستجمع قواها قريباً، ستنهض من موتها المؤقت، وسيكون السبيل إلى أن تستمر في ما تبقى من هذه الحياة هي أن تفقد عقلها تماماً. ستتحول إلى مسس. أما الشيطان الذي حاولوا جاهداً أن يخرجوه منها سيكون قد نسج بيتاً في صدرها أثناء غيبوبتها الكاذبة، ستقول لهم بأنها حزينة وبأن صدرها الأجوف شفاف وبأن كتلة الحزن التي تقبع هناك هلامية الملمس، سوداء كالنفط وعميقةُ عمق بئر القرية وثقيلةٌ ثقل الحرب.

ستفقد عقلها أجل، وسيهرب منها الأطفال، ولأن لديهم طريقة رومانسية في تجميل الحقائق، سيقولون بأنها تاهت في حرش القرية ووجدت –كما تقول القصة- بيتاً من الحلوى، ولأنها كانت جائعة بدأت في التهام أسواره فعاقبتها ساحرة شريرة على فعلتها. سيصدق الأطفال وسيحرصون على الإبتعاد عن روحها الشريرة وسيتجنبون الغوص في أعماق الحرش مع أن فكرة بيت الحلوى تغري بطنوهم ورؤوسهم الصغيرة.

*.*.*

ستستيقظ ولن تبادر أي أحد بالكلام ستغادر سريرها المعدني الذي ألفته وستصبح عابرة في أسرة الغرباء ستفتح فرجها لرجال لا يحملون أسماءاً. لن تتذكر وجوههم أو لمساتهم فدوامتها تقتات على تفاصيلهم.

سيقولون أنها مسخ، وسيطلقون عليها لقب العاهرة المجنونة، ستمشي في الشوارع تتطأطأ رأسها الذي أصبح ثقيلاً جداً، ستتجنب النظر في عيونهم وستبحث في كل مرة عن سرير جديد لتلجاإليه هربًا من الوجوه التي باتت تطاردها.

وحينما يشتد ثقل الوجود على عاتقها، ستقبل دعوة الجثث التسعة لتنضم إليهم، فالسلاسل التي ذكرها مرقس قادرةٌ على حمل ثقل العالم بأسره.  





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأرسلت. // 5

عزيزي X, تحية خريفية أرسلها  إليك من غرفتي التي تطل على مدرسة زيد بن حارثة للذكور. أنتظر ليل الشتاء بفارغ الصبر, فهو فسحتي الوحيدة الهادئة  التي أخلو فيها لنفسي من صخب الحي الذي لا يهدأ طوال ساعات النهار. لذلك سأستغل الهدوء لكي أكتب لك, لأن بعض أجزاء اليوم لا تنتمي إلا لمن يفهمها. كنت حاضرة غائبة خلال الأسابيع الماضية, أحاول من خلالها المضي قدمًا نحو بداية جديدة أرسمها لنفسي.  أشعر بأن داخلي متعفن, بأن الجرذ الذي نحاول التخلص منه في المطبخ قد نفذ إلى داخلي ووجد رفقة طيبة هناك. لم نضطر إلى وضع سم أو تركيب مصيدة أو حتى ارتكاب مجزرة، لقد وجد مخرجًا مسالمًا لنفسه, بعيدًا عن الضجيج والأذى. أنا بخير, لكن الرطوبة تنخر داخلي, أجاهد لأن أحافظ على فكري متقدًا, لأن أعيد إشعال داراته الكهربائية المنطفئة. داخلي بات يشبه  قبوًا  رطبًا, يصلح لأن يكون منبتًا للفطر لا للفن. وهذا محبط جدًا, تلك المرحلة الانتقالية التي حدثتني عنها منذ سنة تقريبًا طالت، وقد باشر صبري القليل بالنفاذ. لقد ارتكبت خلالها أخطاءًا جسيمة لن أغفرها لنفسي حتى أنجح بتخطيها. هذه الأخطاء الجسيمة ومعظم أسئلتي الوجودية

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأُرسلت.

  صديقي البعيد والقريب جداً, ڤانيلا الأزرق ,  لا تتخيل مدى سعادتي حينما قررنا أن نتبادل الرسائل الورقية, لم أكتب رسالة حقيقية من قبل, كنت دائما أكتب الغراميات لأصدقاء أخي في عيد العشاق حينما كنا صغاراً, كنت أبحث عن أجمل الكلمات وأحاول صفها بخط مرتب. مع أني لم أجد أحداً أتبادل معه الرسائل المكتوبة, إلا اني طوال عمري كنت بانتظار واحدة. تماماً كذلك الانتظار الطفولي الملون بالأمل. هناك شيء حميمي ودافىء للغاية في الرسائل, اكتشفت ذلك من خلال قرأتي لحقيبة الرسائل التي احتفظ بها والدي من أيام دراسته في الاتحاد السوفيتي. رسائل من جدي وعماتي وعمي غيث الذي قرأت عنه, ورسائل عاطفية تبادلها والديّ أثناء فترة الخطوبة التي قضوها بعيداً عن بعضهما بحكم المسافة.  لقد سلمني أبي الحقيبة كلها بحكم هوسي بكل شيء مكتوب على قصاصة من ورق, حتى لو لم يحمل معنىً مفيداً.  هي حقيبة زرقاء صغيرة تحمل رائحة الورق المعتق الممزوج برائحة الحبر السائل الذي يملىء الأقلام التي تعاد تعبأتها. الكثير من الرسائل التي في داخلها اصفر ورقها وتمزقت اطرافها. لكنها بالنسبة لي, تشكل بوابةً صغيرة لعالم فقد أبطاله, ولقصص طم

يوميات \\ 8

لم أعد قادرة على قراءة نتف البياض التي تفصل الكلمة عن الأخرى. انعكاسي الذي أراه في المراة بت أتحاشى النظر فيه واستعضت عنه بانعكاس اصطدمت به على نافذة غرفتي المطلة على عالم لشدة قربه مني أصبح بعيداٌ بحيث لم تعد تطاله يداي . أبتلع دخان سيجارتي لتهضمه رئتي ببطىء وأحدق في عيناي التي تطلان على الفراغ وأغور أكثر في تجويفهما وأفكر بأن نهاية العالم قد وجدت خط بدايتها في بقع الظلام التي تسللت إلى بطانة عيناي.   لم يعد النوم يظلل تعبي, لم أعد أكترث لساعات الأرق الطويلة التي أقتلها بالتدخي ن وبأحلام اليقظة, أحلم بأني نائمة وبرجل اسمه مطر عيناه زرقاوان وشعره ضبابي وله نفس ثقيل ينفث من بين شفتيه غيوماً في أوعية مدببة صنعت من البلور الأخضر. افتح نافذتي الصغيرة وأعود لأحدق في السقف لاكتشف بأني لم أغفو, بل تأرجحت فقط على درجات الحلم وتعثرت بها لأعود إلى الأرق ولتضيع الأيام وتنجرف الى ضفاف عيني, لتتلخص حياتي بأكملها بثقبين أسفل الحاجبين و ظل تجعيدتين خجولتين تتطلان كلما ابتسمت.