التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأرسلت. // 5

عزيزي X,

تحية خريفية أرسلها  إليك من غرفتي التي تطل على مدرسة زيد بن حارثة للذكور. أنتظر ليل الشتاء بفارغ الصبر, فهو فسحتي الوحيدة الهادئة  التي أخلو فيها لنفسي من صخب الحي الذي لا يهدأ طوال ساعات النهار. لذلك سأستغل الهدوء لكي أكتب لك, لأن بعض أجزاء اليوم لا تنتمي إلا لمن يفهمها.

كنت حاضرة غائبة خلال الأسابيع الماضية, أحاول من خلالها المضي قدمًا نحو بداية جديدة أرسمها لنفسي. 
أشعر بأن داخلي متعفن, بأن الجرذ الذي نحاول التخلص منه في المطبخ قد نفذ إلى داخلي ووجد رفقة طيبة هناك. لم نضطر إلى وضع سم أو تركيب مصيدة أو حتى ارتكاب مجزرة، لقد وجد مخرجًا مسالمًا لنفسه, بعيدًا عن الضجيج والأذى.

أنا بخير, لكن الرطوبة تنخر داخلي, أجاهد لأن أحافظ على فكري متقدًا, لأن أعيد إشعال داراته الكهربائية المنطفئة. داخلي بات يشبه  قبوًا  رطبًا, يصلح لأن يكون منبتًا للفطر لا للفن. وهذا محبط جدًا, تلك المرحلة الانتقالية التي حدثتني عنها منذ سنة تقريبًا طالت، وقد باشر صبري القليل بالنفاذ. لقد ارتكبت خلالها أخطاءًا جسيمة لن أغفرها لنفسي حتى أنجح بتخطيها. هذه الأخطاء الجسيمة ومعظم أسئلتي الوجودية التي أتهرب منها  تتلخص بنقطة واحدة وهي: عضلة الكتابة. أنا بارعة  في التجاهل والانسحاب، بارعة في التنكر والاحتيال والكذب والعناد على نفسي-فقط-.

أهملت مدونتي والقراءة والكتابة واللغة. أتهرب من  الخوض في الحياة بالغور في عزلة فارغة من أي معنى.  لا جديد في هذا الحديث، لا جديد في "التذمر الوجودي" الخاص بي، لا أظن أن هذا يعد تذمرًا لأني على الأقل بدأت بأخذ موقف لتصحيح هذه الأخطاء بعكس التذمر المعتاد الذي يناقش المشكلة والمشاعر المصاحبة لها ويتفادى اقتراح الحلول.

أول خطوة كانت  هي مواجهة الإنكار, والاعتراف أمام نفسي بأني ببساطة  لم أجد امتدادًا خاصاً بي مع هذا الوجود إلا بالكلمات. القراءة والكتابة هما صلتي الوحيدة بهذا العالم. وإذا عزمت أن أكتب، وإن كان ذلك لنفسي فقط فعلي أن أفعل ذلك, لأكون حاضرة وموجودة بكل حاسة من حواسي، لأخدم هذا "الهدف السامي" الذي يحثني على إضرام النار في داخلي وإبقاءه مشتعلًا. لم أعد أضج بالنور يا x، غياب النور لن ينبت حديقة في داخلي.

بدأت بكتابة قصة، أعلم أنه لمجرد الحديث عنها يعني أنني لن أكملها، ولا أمانع. بطلها غراب، حاولت أن أصيغ عمان ببضعة رمزيات, ولا أعلم أين ستأخذني الشخوص، أعتبرها بعيدة عن أسلوبي،أحاول من خلالها التمرن على عملية الخلق وعناصر السرد المختلفة والأمر ليس بهذا السوء، حتى لو كانت سيئة فحقًا لا أمانع لأنني أعلم جيدًا بأن المراحل الانتقالية حتى بالسرد لا تمر بسلام أو بثبات وهي الأخرى ليست معصومة عن الخطأ وكلها مبنية على التجربة والفشل. نموها مرتبط بي، ونضجها يقوم على نضجي، وتمردها أروضه أنا وحدي.

شردت كثيرًا عن هدف رسالتي الأساسي، أردت أن أبلغك بأن هاتفي معطل وبأنني سأتركه على حاله لفترة ليست بقصيرة، لأن مواجهتي مع نفسي -على ما يبدو- ستطول وبأني سأستغل فترة السكون غير المعتادة هذه بالابتعاد عن كل مصادر تشتيت الانتباه.  وأردت أن أشاركك ببضعة أفكار لا تبارح ذهني.

خضت اليوم بعضا من عمان التي أمقتها, كنت في عبدون، أخذني صديقي الوحيد إلى السينما. شاهدنا فلم “MOTHER!”  
الفلم من كتابة وإخراج دارن أرنوفسكي, مبتكر فلم
“BLACK SWAN”
الذي تحدثنا عنه أكثر من مرة, كان الفلم عبقريًا ومذهلًا بالنسبة لي، التجربة السينمائية التي خضتها مع السرد البصري لا تشبه أي فلم شاهدته من قبل، أنصحك بمشاهدته ولن أتحدث عنه أكثر إلا حينما تشاهده أنت أيضًا. الفلم دسم وغني بالمعاني والرموز. تخيل, لقد ضجرت القاعة لأنها لم تستطع مواكبة الأحداث واستيعاب المجازات التي لا استطيع  وصفها بكلمة تقل عن العبقرية ومرادفاتها.
 ساعتين كاملتين أمضيتها بحالة من الذهول التام، ساعتين تم صفهما على الورق بستة أيام فقط. احتاج الكاتب لستة أيام  فقط لينتج حبكة متكاملة .

اعترف مؤخرًا بأنني ابتعدت عن التجمعات البشرية, وبات احتكاكي اليومي بالبشر مقتصرًا على عائلتي وبضعة من الأصدقاء, لم أحتك بعمان كاليوم منذ أشهر، لم أعد أخرج سوى  لقضاء حاجة معينة، ما إن أنتهي منها, أركض لألحق بالحافلة لتقلني إلى نفسي مجددًا. هل سنة واحدة كفيلة بخلق هذه الهوة التي لا تعرف نهاية بيني وبين أبناء جيلي وبين عمان التي كانت يومًا ما تخصني؟

 ظهر خلال الفلم مشهد لأم ترضع طفلها فانفجر الحضور بالضحك. ألهذا الحد باتت عمان ضحلة وكسولة تريد أن تستهلك الفن كالوجبات السريعة؟

 أسأل نفسي كل يوم، أي حياة هذه التي سأخوضها هنا بين نشاز الملل وضجيجه.  أي نوع من الكائنات الغريبة بات يملىء شوارع المدينة؟ مراهقون وكبار يمارسون شهوتهم تحت إشراف رجال الشرطة. أتعلم، أصبحت على قناعة تامة بأن النوع البشري القادم سيكون أكثر غباءًا، أو بالأحرى، سينفصل الجنس البشري  إلى جماعات مجددًا, بعضها سيملك دماغًا بشريًا متطورًا للغاية, والأخر سيملك دماغا بدائيًا.  مآلنا النهائي هو عزلة نقضيها بين أنفسنا. 

 فسحة أملي ضاقت جدا. كل هذه المشاهد تضعني أمام مواجهة مفتوحة ضد نفسي، رأسي يضج بحقيقة 
مخجلة، وهي  إني لم أبذل قصارى جهدي بعد.

كيف خريفك؟  حدثني عن أيامك، كيف رأسك؟ وماذا تقرأ؟ "كيفك" صادقة أسألها لأسمع ردها برسالة منك.

كن بخير،،،
لينا





تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأُرسلت.

  صديقي البعيد والقريب جداً, ڤانيلا الأزرق ,  لا تتخيل مدى سعادتي حينما قررنا أن نتبادل الرسائل الورقية, لم أكتب رسالة حقيقية من قبل, كنت دائما أكتب الغراميات لأصدقاء أخي في عيد العشاق حينما كنا صغاراً, كنت أبحث عن أجمل الكلمات وأحاول صفها بخط مرتب. مع أني لم أجد أحداً أتبادل معه الرسائل المكتوبة, إلا اني طوال عمري كنت بانتظار واحدة. تماماً كذلك الانتظار الطفولي الملون بالأمل. هناك شيء حميمي ودافىء للغاية في الرسائل, اكتشفت ذلك من خلال قرأتي لحقيبة الرسائل التي احتفظ بها والدي من أيام دراسته في الاتحاد السوفيتي. رسائل من جدي وعماتي وعمي غيث الذي قرأت عنه, ورسائل عاطفية تبادلها والديّ أثناء فترة الخطوبة التي قضوها بعيداً عن بعضهما بحكم المسافة.  لقد سلمني أبي الحقيبة كلها بحكم هوسي بكل شيء مكتوب على قصاصة من ورق, حتى لو لم يحمل معنىً مفيداً.  هي حقيبة زرقاء صغيرة تحمل رائحة الورق المعتق الممزوج برائحة الحبر السائل الذي يملىء الأقلام التي تعاد تعبأتها. الكثير من الرسائل التي في داخلها اصفر ورقها وتمزقت اطرافها. لكنها بالنسبة لي, تشكل بوابةً صغيرة لعالم فقد أبطاله, ولقصص طم

يوميات \\ 8

لم أعد قادرة على قراءة نتف البياض التي تفصل الكلمة عن الأخرى. انعكاسي الذي أراه في المراة بت أتحاشى النظر فيه واستعضت عنه بانعكاس اصطدمت به على نافذة غرفتي المطلة على عالم لشدة قربه مني أصبح بعيداٌ بحيث لم تعد تطاله يداي . أبتلع دخان سيجارتي لتهضمه رئتي ببطىء وأحدق في عيناي التي تطلان على الفراغ وأغور أكثر في تجويفهما وأفكر بأن نهاية العالم قد وجدت خط بدايتها في بقع الظلام التي تسللت إلى بطانة عيناي.   لم يعد النوم يظلل تعبي, لم أعد أكترث لساعات الأرق الطويلة التي أقتلها بالتدخي ن وبأحلام اليقظة, أحلم بأني نائمة وبرجل اسمه مطر عيناه زرقاوان وشعره ضبابي وله نفس ثقيل ينفث من بين شفتيه غيوماً في أوعية مدببة صنعت من البلور الأخضر. افتح نافذتي الصغيرة وأعود لأحدق في السقف لاكتشف بأني لم أغفو, بل تأرجحت فقط على درجات الحلم وتعثرت بها لأعود إلى الأرق ولتضيع الأيام وتنجرف الى ضفاف عيني, لتتلخص حياتي بأكملها بثقبين أسفل الحاجبين و ظل تجعيدتين خجولتين تتطلان كلما ابتسمت.