التخطي إلى المحتوى الرئيسي

في غرفة الإنتظار// يوميات

الغرفة التي ترائت لي بأنها زرقاء قبل خمسة أشهر, بدت لي اليوم رمادية. الأزرق هو لون عينيه, هو لون الحبر الذي أدون به يومياتي, هو لون مدينة شفشاون التي لم أزرها بعد, هو لون الماء المالح, هو لون البحر, هو لون الدموع التي ذرفتها على جدتي, ولون موسيقى (تشيت بيكر), هو لون الكدمات التي تغطي قلبي الهزيل, هو لون كوكبنا الصغير من الفضاء, هو لون الحزن الذي رسمه فان كوخ في لوحته (ليلة النجوم) والتي علقت نسخة مقلدة مرسومة بإتقان على جدار غرفة الإنتظار. أما الرمادي فهو لون القمر, ولون مئزر مريم العذراء في أيقونتها المعلقة في ممر المنزل, ولون هواء هذه الغرفة وجدرانها, ولون وجوهنا التي مسحها الحزن, ولون قبعة الرجل الرمادي الذي 
يجلس على يميني. 

*.*.*

تجلس مقابلي امرأة أربعينية. آثار البكاء تبدو واضحة على عيناها الذابلتين, يداها ترتجف وتحتسي الماء بجرعات صغيرة ومتفاوتة من قنينة ماء رخيصة. زوجها يمسك بيدها ويحاول أن يواسيها وأن يهدىء من روعها. ابنها يحاول أن يتصرف كرجل كبير وأن يقوم بدور "القبضاي" في مساندة العائلة الصغيرة التي انتهى مطافها في هذه الغرفة الضيقة التي سئمت من الناس.
 تقاطع طريقي مع الصبي في درج البناية , كان يدخن سجائر من نوع (جولدكوست): هي سجائر رخيصة وتنجح في تحقيق غايتها بتسميم الرئتين. كنت جالسة على الدرج وأدخن سيجارة وأحاول أتمالك صوابي لأني أعلم جيداً أن لينا التي ستدخل هذا الباب لن تكون نفسها حين تخرج منه.ما زالت تنتابني نوبة رعب صغيرة كلما حاولت العودة إلى ذلك الدرج, وإلى طعم السيجارة الرخيصة التي طعمها لم يغادر فمي من حينها. 
عينا الصبي جميلتان وحذقتان في اّن معاً, إلا أن الخذلان مقروء في عينيه السووداوين, لم يكن وجوده مزعجاً إلى هذا الحد بل كان مريحاً بطريقة غريبة,  تماماً كغيمة ماطرة تجر وراءها خيوط الشمس دائماً. حين رأيته في غرفة الإنتظار ابتسمت له ورد إلي الإبتسامة لأن كلانا يعلم أنه يخفي حقيقية تدخينه عن والديه.

   لا أستطيع أن أحدد إن كانت تلك المرأة خائفة من الوجوه التي تحدق فيها أم من الإستحقاق الذي ينتظرها في الداخل, كانت تقف لتواجه الحائط لتغيب ملامحها عن أعين الجالسين بما فيهم ابنها وزوجها, تقف هكذا بكل قوة, كتمثال حديدي مجوف تحدق في اللاشيء وتغرق في نفسها. تحدث زوجها دون أن تنظر إليه. أستطيع أن أجزم أن يديها باردتين كظلها, وبأنها في هذا الجو الربيعي الدافىء تشعر ب"بردية" مصدرها شٌق في نصفها الأيسر يتسبب لها  بعاصفةٌ تطلق عليها- بينها وبين نفسها-اسم (الوحدة). عاصفةٌ لا تقوى يدي زوجها الدافئتين أو نظرات ابنها على ردعها.
                       
  *.*.*      
على يميني, رجل يبدو أنه أصلع, يرتدي قبعةً رمادية, شديد الهدوء والتركيز, ينفث سجائر من نوع (كنت\\ ألترا لايت), نظراته ثابتة وثاقبة,  حين ينظر إلي تستغرق تحديقته 3 ثواني, مما أشعرني -عندما استدرت لأقرأ ملامحه- بالغرابةوالخجل  لتطفلي على مساحة رؤيته- التي تخصه وحده-.

 الكل هنا في غرفة الإنتظار حريص ٌ على مساحته الخاصة, لا نتبادل الكلمات أو النظرات, كل واحد منا قابع في فقاعة الجنون الخاصة به,أي كلمة أو نظرة صغيرة قد تخل من توازن الفقاعة, فتنفجر (حقيقةً وليس مجازاً).

 لدى الرجل أصابع جميلة, قد تناسب أن يكون صاحبها جراحاً أو عازفاً للبيانو. هيئته الغامضة مشذبة ونظيفة للغاية, مع أن معطفه الخفيف مثقوب من الجنب, إلا أن ذلك الثقب الذي يكشف عن قميصه الداخلي لم يؤثر على أناقة مظهره.

                         *.*.*    
على يساري رجل متوتر, يبدو أنه عجوز هرم, يحمل في قلبه حقداً يكفي أن يغرق هذا العالم كله بالسواد. الرجل يعلم أني أبحلق فيه, لكنه لا يستجيب لنظرتي, عوضاً عن ذلك يخمد رماد سيجارته الطويلة والمنتهية على الأرض, ويشعل سيجارة أخرى, ويدخنها وهو يهز كلاً من يده التي تحمل السيجارة وقدمه اليمنى برتابةٍ حركة عقرب الثواني في الساعة المعلقة على الحائط في غرفة الإنتظار والتي تشير الآن إلى الواحدة والنصف تماماً.

لسبب مجهول, الكل يدخن هنا, مع أن ورقة (ممنوع التدخين) بنسخها الثلاثة معلقة على معظم جدران الغرفة الرمادية.
لو إلتزم العالم بالقوانين كما يلتزمون الصمت, لربما لكنا في عالم أفضل.
*.*.*

أما عن نفسي لا أعلم كيف أبدو, أخفي رأسي في شاشة هاتفي, وأحاول أن ألتزم الصمت وأن أتجاوز رغبتي الشديدة في إشعال نفسي, أو رميها من النافذة. أدون هذه الملاحظات الدقيقة والفارغة حول محيطي, لأتجاوز حقيقة أني حزينة,  ولأتجاهل حقيقة أني لأول مرة في حياتي لم أشعر فيها بالوحدة كانت بين هؤلاء الغرباء.

 هنالك حزن داخلي أزرق اللون يوحدنا, وفقاعة رمادية نسد صدوعها بخيوط دقيقة نغزلها من ليالي الأرق, لتتناسب مع هذه الغرفة, التي ضجرت جدرانها من حزننا وضاق سقفها من أنفاسنا الثقيلة.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأرسلت. // 5

عزيزي X, تحية خريفية أرسلها  إليك من غرفتي التي تطل على مدرسة زيد بن حارثة للذكور. أنتظر ليل الشتاء بفارغ الصبر, فهو فسحتي الوحيدة الهادئة  التي أخلو فيها لنفسي من صخب الحي الذي لا يهدأ طوال ساعات النهار. لذلك سأستغل الهدوء لكي أكتب لك, لأن بعض أجزاء اليوم لا تنتمي إلا لمن يفهمها. كنت حاضرة غائبة خلال الأسابيع الماضية, أحاول من خلالها المضي قدمًا نحو بداية جديدة أرسمها لنفسي.  أشعر بأن داخلي متعفن, بأن الجرذ الذي نحاول التخلص منه في المطبخ قد نفذ إلى داخلي ووجد رفقة طيبة هناك. لم نضطر إلى وضع سم أو تركيب مصيدة أو حتى ارتكاب مجزرة، لقد وجد مخرجًا مسالمًا لنفسه, بعيدًا عن الضجيج والأذى. أنا بخير, لكن الرطوبة تنخر داخلي, أجاهد لأن أحافظ على فكري متقدًا, لأن أعيد إشعال داراته الكهربائية المنطفئة. داخلي بات يشبه  قبوًا  رطبًا, يصلح لأن يكون منبتًا للفطر لا للفن. وهذا محبط جدًا, تلك المرحلة الانتقالية التي حدثتني عنها منذ سنة تقريبًا طالت، وقد باشر صبري القليل بالنفاذ. لقد ارتكبت خلالها أخطاءًا جسيمة لن أغفرها لنفسي حتى أنجح بتخطيها. هذه الأخطاء الجسيم...

يوميات \\ 8

لم أعد قادرة على قراءة نتف البياض التي تفصل الكلمة عن الأخرى. انعكاسي الذي أراه في المراة بت أتحاشى النظر فيه واستعضت عنه بانعكاس اصطدمت به على نافذة غرفتي المطلة على عالم لشدة قربه مني أصبح بعيداٌ بحيث لم تعد تطاله يداي . أبتلع دخان سيجارتي لتهضمه رئتي ببطىء وأحدق في عيناي التي تطلان على الفراغ وأغور أكثر في تجويفهما وأفكر بأن نهاية العالم قد وجدت خط بدايتها في بقع الظلام التي تسللت إلى بطانة عيناي.   لم يعد النوم يظلل تعبي, لم أعد أكترث لساعات الأرق الطويلة التي أقتلها بالتدخي ن وبأحلام اليقظة, أحلم بأني نائمة وبرجل اسمه مطر عيناه زرقاوان وشعره ضبابي وله نفس ثقيل ينفث من بين شفتيه غيوماً في أوعية مدببة صنعت من البلور الأخضر. افتح نافذتي الصغيرة وأعود لأحدق في السقف لاكتشف بأني لم أغفو, بل تأرجحت فقط على درجات الحلم وتعثرت بها لأعود إلى الأرق ولتضيع الأيام وتنجرف الى ضفاف عيني, لتتلخص حياتي بأكملها بثقبين أسفل الحاجبين و ظل تجعيدتين خجولتين تتطلان كلما ابتسمت.

يوميات \\ أزل

أطلقت اسم "أزل" على مشروع تخرجي، فبعد ثماني ساعات من التيه في المعجم الوسيط والتخبط بين معاني الكلمات وأضدادها ومرادفتها بهدف الوصول إلى كلمة تصف علاقتي باللغة العربية، حط ناظراي على هذه الكلمة؛ أزل: أَيْ مُنْذُ القِدَمِ ،أَيْ مَا لاَ نِهَايَةَ لَهُ فِي أَوَّلِهِ. في الظاهر فقط كنت أبحث عن كلمة خفيفة تلفظها الشفتين دون جهد وتتسلل إلى شباك الذاكرة بسهولة. إلا إنني في الحقيقة كنت أحاول بشكل يائس بحق الوصول إلى كلمة تصف مدى الحزن الذي أحمله في داخلي، ذلك الحزن الذي سببته لي اللغة والذي  أشبه بأن يكون  صدمة بمؤخرة رأسك، لا يقتلك لكنه يبتعلك ويتكور حولك ويتسلل من رأسك ويستقر في صدرك، ويرتجف في دمك كما ترتجف الأحرف على السطور، ويتكوم على ظهرك المنحني من وزر الكلمات الثقيلة التي تخلى عنها أصحابها على رف منسي من الكتب، ظهرك الذي يحمل كل هذا الوهج دون أن يعي عبئه. اللغة العربية كانت مدخلاً لهذا "الأزرق" الذي يستقر في داخلي. تلك القصص التي أدور بها لأقع من شدة الدوار، والشخصيات التي لا أنفك عن الحديث معها والمرور بها، ذلك السحر الحزين المغلف بالدهشة الذي تتلقفه على هي...