التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عن لوليتا أُخرى

على الأريكة الحمراء الأسفنجية, في تلك الغرفة التي تقبع في الطابق الرابع في بناية رثة شبه مهجورة, جلست لوليتا تحدثه عن الألم الذي يتكور في داخلها ليأخذ شكل مشنقة.

 لم تكن لوليتا جريئةً بما يكفي لأن تنظر في عينيه وتكلمه عن المسخ الذي صار يكبر في داخلها. في جو كئيب ومربك حاولت لوليتا أن تضبط إرتعاشاتها المضطربة وأن تستجمع شيئاً من الشجاعة لتفرد حزنها قطعة قطعة أمامه ليتأمل روحها العارية تحت ضوء الشمس الذي كان يتسلل من النافذة المضببة التي تطل على أحد الشوارع المزدحمة في عمان.

لم تستطع لوليتا أن تحدثه عن تلك اليد التي حينما غطت فمها وكتمت أنفاسها لئلا يُكشف سره الصغير قد تحولت إلى مقصلة قطع بها لسانها وأنفاسها إلى الأبد. ما زالت لوليتا تتعثر بالكلام وتختنق بالكلمات كلما حاولت أن تعود إلى هناك.

 همبرت ذهب, لكنه لم يغادر جسدها قط.

 همبرت ليس رجلاً بالمعنى العادي الذي صوره نابكوف في روايته. لم يكن لهمبرت هنا رأس أو أنف أو فم أو حتى قدمين. لو كانت لوليتا قادرة على الرسم لرسمت جسداً ضخماً شاحباً بيدين كبيرتين وأظافر لوزية ومكان العينين لوضعت ثقباً أسود ,وعوضاً عن رسم قلب في صدره المشعر لرسمت مقبرة.

قالت" يداه هما الخطيئة", لكنه نظر إلى لوليتا ولم يفهم.
قالت بسرعة -لتتدارك الهوة التي بدأت تنمو بينهما- بأن شارل أزنافور في أغنيته (الموت حباً) قد غنى: "الخطيئة تلامس أعضاءالجسد لكنها لا تعرف الروح", شرحت له بأن الخطيئة قد علقت بين فخذيها الهشيين وبأن همبرت قد تسلل إلى روحها من ثقبها الصغير ونقل مقبرته إلى صدرها. قالت بأن الخطيئة قد لامست روحها وبأن أزنافور رجلٌ كاذب.

لم يعد ينظر إليها الاّن, فقد حول نظره إلى بقعة الضوء التي تركزت عند قدميها المرتجفتين.

لو كانت لوليتا قادرة على رسم نفسها, لرسمت طفلةً صغيرة بوجه خائف, تداعب قطة سوداء, مرتديةً بنطالاً أحمر بصدر عارٍ وفي نقطة النهديين لرسمت منفضة سجائر .

بدأت تحدثه عن همبرت وهوسه بالطيران واللون الأزرق والمقابر. حدثته عن يديه القذرتين وكيف كان يقبض بهما على رسيغها الهزيلين, يدور بها إلى أن ترتفع عن الأرض ويمتزج ظلها مع السماء التي كانت تضيع في عينيه.

 حدثته عن محترفه الصغير, وعن الأغراض المكدسة فيه, وعن أصوات القطط التي كانت تموء في تلك الخرابة التي اقتادها إليها. حدثته عن بنطالها الأحمر الذي تمزق يومها,وعن الغبار الذي كان يتطاير مع أنفاسه الثقيلة ليملأ رئتيها.  وعن الجدار الأسمنتي الخشن الذي كتم ضحكاته المتلذذة بجسدها الصغير. وعن البرد القارص الذي تجمع في ركبتيها. قالت لوليتا  بأن همبرت غرق  في بحر من البياض وبأن يومها لم تكن خائفة إلا من مواء القطط.

 دفنت رأسها بين يديها وبكيت. -كانت عاريةً تماماً-.








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأرسلت. // 5

عزيزي X, تحية خريفية أرسلها  إليك من غرفتي التي تطل على مدرسة زيد بن حارثة للذكور. أنتظر ليل الشتاء بفارغ الصبر, فهو فسحتي الوحيدة الهادئة  التي أخلو فيها لنفسي من صخب الحي الذي لا يهدأ طوال ساعات النهار. لذلك سأستغل الهدوء لكي أكتب لك, لأن بعض أجزاء اليوم لا تنتمي إلا لمن يفهمها. كنت حاضرة غائبة خلال الأسابيع الماضية, أحاول من خلالها المضي قدمًا نحو بداية جديدة أرسمها لنفسي.  أشعر بأن داخلي متعفن, بأن الجرذ الذي نحاول التخلص منه في المطبخ قد نفذ إلى داخلي ووجد رفقة طيبة هناك. لم نضطر إلى وضع سم أو تركيب مصيدة أو حتى ارتكاب مجزرة، لقد وجد مخرجًا مسالمًا لنفسه, بعيدًا عن الضجيج والأذى. أنا بخير, لكن الرطوبة تنخر داخلي, أجاهد لأن أحافظ على فكري متقدًا, لأن أعيد إشعال داراته الكهربائية المنطفئة. داخلي بات يشبه  قبوًا  رطبًا, يصلح لأن يكون منبتًا للفطر لا للفن. وهذا محبط جدًا, تلك المرحلة الانتقالية التي حدثتني عنها منذ سنة تقريبًا طالت، وقد باشر صبري القليل بالنفاذ. لقد ارتكبت خلالها أخطاءًا جسيمة لن أغفرها لنفسي حتى أنجح بتخطيها. هذه الأخطاء الجسيم...

يوميات \\ 8

لم أعد قادرة على قراءة نتف البياض التي تفصل الكلمة عن الأخرى. انعكاسي الذي أراه في المراة بت أتحاشى النظر فيه واستعضت عنه بانعكاس اصطدمت به على نافذة غرفتي المطلة على عالم لشدة قربه مني أصبح بعيداٌ بحيث لم تعد تطاله يداي . أبتلع دخان سيجارتي لتهضمه رئتي ببطىء وأحدق في عيناي التي تطلان على الفراغ وأغور أكثر في تجويفهما وأفكر بأن نهاية العالم قد وجدت خط بدايتها في بقع الظلام التي تسللت إلى بطانة عيناي.   لم يعد النوم يظلل تعبي, لم أعد أكترث لساعات الأرق الطويلة التي أقتلها بالتدخي ن وبأحلام اليقظة, أحلم بأني نائمة وبرجل اسمه مطر عيناه زرقاوان وشعره ضبابي وله نفس ثقيل ينفث من بين شفتيه غيوماً في أوعية مدببة صنعت من البلور الأخضر. افتح نافذتي الصغيرة وأعود لأحدق في السقف لاكتشف بأني لم أغفو, بل تأرجحت فقط على درجات الحلم وتعثرت بها لأعود إلى الأرق ولتضيع الأيام وتنجرف الى ضفاف عيني, لتتلخص حياتي بأكملها بثقبين أسفل الحاجبين و ظل تجعيدتين خجولتين تتطلان كلما ابتسمت.

يوميات \\ أزل

أطلقت اسم "أزل" على مشروع تخرجي، فبعد ثماني ساعات من التيه في المعجم الوسيط والتخبط بين معاني الكلمات وأضدادها ومرادفتها بهدف الوصول إلى كلمة تصف علاقتي باللغة العربية، حط ناظراي على هذه الكلمة؛ أزل: أَيْ مُنْذُ القِدَمِ ،أَيْ مَا لاَ نِهَايَةَ لَهُ فِي أَوَّلِهِ. في الظاهر فقط كنت أبحث عن كلمة خفيفة تلفظها الشفتين دون جهد وتتسلل إلى شباك الذاكرة بسهولة. إلا إنني في الحقيقة كنت أحاول بشكل يائس بحق الوصول إلى كلمة تصف مدى الحزن الذي أحمله في داخلي، ذلك الحزن الذي سببته لي اللغة والذي  أشبه بأن يكون  صدمة بمؤخرة رأسك، لا يقتلك لكنه يبتعلك ويتكور حولك ويتسلل من رأسك ويستقر في صدرك، ويرتجف في دمك كما ترتجف الأحرف على السطور، ويتكوم على ظهرك المنحني من وزر الكلمات الثقيلة التي تخلى عنها أصحابها على رف منسي من الكتب، ظهرك الذي يحمل كل هذا الوهج دون أن يعي عبئه. اللغة العربية كانت مدخلاً لهذا "الأزرق" الذي يستقر في داخلي. تلك القصص التي أدور بها لأقع من شدة الدوار، والشخصيات التي لا أنفك عن الحديث معها والمرور بها، ذلك السحر الحزين المغلف بالدهشة الذي تتلقفه على هي...