التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأُرسلت.


 صديقي البعيد والقريب جداً,

ڤانيلا الأزرق
لا تتخيل مدى سعادتي حينما قررنا أن نتبادل الرسائل الورقية, لم أكتب رسالة حقيقية من قبل, كنت دائما أكتب الغراميات لأصدقاء أخي في عيد العشاق حينما كنا صغاراً, كنت أبحث عن أجمل الكلمات وأحاول صفها بخط مرتب. مع أني لم أجد أحداً أتبادل معه الرسائل المكتوبة, إلا اني طوال عمري كنت بانتظار واحدة. تماماً كذلك الانتظار الطفولي الملون بالأمل.
هناك شيء حميمي ودافىء للغاية في الرسائل, اكتشفت ذلك من خلال قرأتي لحقيبة الرسائل التي احتفظ بها والدي من أيام دراسته في الاتحاد السوفيتي. رسائل من جدي وعماتي وعمي غيث الذي قرأت عنه, ورسائل عاطفية تبادلها والديّ أثناء فترة الخطوبة التي قضوها بعيداً عن بعضهما بحكم المسافة.
 لقد سلمني أبي الحقيبة كلها بحكم هوسي بكل شيء مكتوب على قصاصة من ورق, حتى لو لم يحمل معنىً مفيداً.
 هي حقيبة زرقاء صغيرة تحمل رائحة الورق المعتق الممزوج برائحة الحبر السائل الذي يملىء الأقلام التي تعاد تعبأتها. الكثير من الرسائل التي في داخلها اصفر ورقها وتمزقت اطرافها. لكنها بالنسبة لي, تشكل بوابةً صغيرة لعالم فقد أبطاله, ولقصص طمرت تحت التراب وضلت طريقها مع أصحابها إلى الأبد.
 في داخلي أعتقد بأن مفهوم الحياة يكمن في تلك التفاصيل الصغيرة التي أحملها معي دائماً, كاحتساء كوب من القهوة على رصيف في زقاق من أزقة البلد, أو محادثة لطيفة مع طفلة غجرية ملونة عند الموقف أثناء انتظاري للحافلة. او ككتابة رسالة أو تلقي واحدة.هناك شيء لطيف جداً في الحديث معك, أو في الحديث مع الغرباء بشكل عام, أظن أن هناك شيء يدفع الانسان للجوء الى شخص غريب غريزياً, لأن الغرباء صادقون والحديث معهم خفيف وشفاف ولا يحيطه غبار الحكم المسبق. والانسان في تلك اللحظات يستطيع أن يسلم نفسه لشخص غريب لينتشله من الهوة السحيقةالتي قد يضيع فيها للأبد وهو يبحث عن مخرج.
اعلم أنك سألت نفسك مراراً, ما الشيء الذي يدفع فتاة مثلي إلى الكاّبة والحزن بهذا الشكل. أنا نفسي لا أعلم, أو أني أعلم السبب جيداً لكني لا أقوى على مواجهته حتى مع نفسي. لكني سأجد خلاصي, أعدك بذلك.
لا شيء مثير للاهتمام في هذا الجزء البائس من العالم, ندعي أننا أحياء, والموت يحيط بنا من كل جهة, كسائر البشر على هذا الكوكب.
أكره البقاء في المنزل, أمي تستشيط غضباً من كثرة الأعمال المنزلية ولا تكف عن التذمر. أكره مغادرة غرفتي, فأمي تستمع الى الأخبار طوال اليوم وبصوت مرتفع وأنا أكره التلفاز وأكره صوته وأكره الأخبار مع اني طالبة اعلام. الأخبار والسياسة تدفعني  إلى حافة الجنون وإلى حالة مرضية من الكره والغضب, لأن مشاهدتي لأي برنامج أو نشرة أخبارية تحولت إلى مشاهدة تحليلية مزعجة تصيبني بصداع لا ينتهي.
 الان وأنا أكتب لك, أتذكر بأني لم أتفوه بجملة واحدة, حقاً, أكتفي بهز رأسي فقط لكل من حولي.
أحضر لائحة من الجمل المبتذلة عن الطقس والطعام والموضة قبل أنام لأحدث زملائي عنها, بعض الثرثرات السطحية الخالية من المعاني التي أنطقها دفعة واحدة, لأعود بعدها إلى صمتي المعتاد, والى هز رأسي كبديل مريح عن الكلام. لذلك حينما أصادف روحاً مثلك, تمتلكني رغبة عارمة في الكلام. وأتحدث عن كل شيء وأي شيء كأني لم أتحدث منذ دهر أو أكثر. 
أنا أعيش في شقة في الطابق الثاني, البناية كلها للعائلة, عمي في الشقة المجاورة, وبيت جدتي في الطابق الأرضي,  لم يتبقى فيه سوى عماتي الثلاث اللواتي لم يحالفهن الحظ في الزواج. العلاقات العائلية الان خاصة بعد وفاة جدتي أصبح "الواجب" هو ما يغلب على العلاقات فيما بيننا.
حينما أشعر بالملل, أنزل الى الطابق السفلي لأحتسي كوباً من القهوة مع عماتي, تعطيني إحداهن سيجارة, وأشعلها وأدعي أني لا أعلم كيف أمسكها, أخذ نفساً وأسعل وأدعي أني لم أدخن من قبل. لم أكن لاتجرأ أن أدخن أمامهم لو كانت جدتي مريم موجودة.
أتعلم, قبل ان تكتب لي بالامس بأنك تريدني أن أتحدث عن جدتي, كنا أنا وأبي جالسين معاً, وكنا نتحدث عنها. أبي قريب جداً لي, وهو أكثر من يفهمني ويستوعب مزاجي الصعب. ويؤمن إيماناً أعمى بأني سأكتب يوماً ما.  
جدتي مريم, كانت امرأة جبارة, كانت متحفظة في مشاعرها, لم تكن حنونة بالمفهوم الدقيق للكلمة. كانت دائما ترتدي فستاناً عنابي اللون, وفي الأعياد ترتدي فستانها المماثل للأول, لكن بلونه النيلي. كان شعرها أسوداً قصيراً, وكانت عمتي لميس تحّنيه لها كل شهر.  كانت دائما تجلس على كرسيها المعتاد في غرفة الجلوس وأمامها مدفأة الكاز, كنا نتجمع حولها, وتروي لنا قصصاً عن جدي والأيام التي قضتها معه في دمشق أثناء دراسته للحقوق, وعن الحياة القروية "أيام العز"  وطفولتها. كانت تعاني من السكري, أذكر يدها البيضاء التي كانت تشمر عنها كل يوم لتتلقى حقنة الأنسولين, وكيف كانت تقبض بأسنانهاعلى قبة فستانها وكيف يعتصر كل وجهها من الألم.
كانت جميلة جداً, وقوية جداً, حتى في موتها. لم أرى ضعفها سوى مرة واحدة في حياتي, ذهبنا يوماً لزيارة قبر جدي, لم أعد أذكر متى تحديداً كنت صغيرة, وجدي سبقها بالرحيل بسنين كثيرة, لكني أذكر انتحابها وصراخها أمام القبر. كانت تلك المرة الوحيدة التي رأيت جدتي تبكي و تبدو بهذا الضعف والوحدة. أتعلم, لقد أعدت إلي الكثير من الذكريات التي أهملتها في رأسي الفوضوي.
 لم تتعذب جدتي, كان موتها مسالماً جداً. كانت في المطبخ تلف ورق العنب, شعرت بالدوار, وماتت.
 أترى كم هو من السهل مغادرة هذه الحياة, وكم هو صعب أن نعيشها؟  
لا أعلم, أشعر أني قد فقدت إحساسي بالزمن مؤخراً, كل شيء حولي يبدأ بالاختفاء, الأشخاص, الأماكن, الألوان, كلها تتغير ويخف بريقها, وأنا عالقة لا أقوى على استيعاب الأمور. كلما حاولت أن أمد يدي لأمسكها او لأشعر بها, تبتعد عني الأشياء ويخف وهجها. لا أظن أني قادرة على وصف الأمور بالكتابة, ربما ان كنت ماهرة بالرسم لكنت أوضح, لكنت أقل وحدة.
أتعلم ما الوحدة ؟ الوحدة هي أن أدفع النقود لطبيبٍ نفسي فقط لاني أحتاج الى أُذنٍ تصغي الي.كل شيء في الحياة يستحق الرثاء, أقسم لك. ومع ذلك, كل يوم في مفكرتي أكتب " غداً سيكون أفضل". 
كتبت كثيراً, وأخيراً أشعر أني قادرة على التنفس. أتمنى أن أيامك تجري بسلاسة, حدثني أنت أيضاً عن أي شيء, وعن كل شيء.
أنتظر رسالتك بفارغ الصبر.
كن بخير,
صديقتك البعيدة والقريبة جداً,
فوضى .




                            

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأرسلت. // 5

عزيزي X, تحية خريفية أرسلها  إليك من غرفتي التي تطل على مدرسة زيد بن حارثة للذكور. أنتظر ليل الشتاء بفارغ الصبر, فهو فسحتي الوحيدة الهادئة  التي أخلو فيها لنفسي من صخب الحي الذي لا يهدأ طوال ساعات النهار. لذلك سأستغل الهدوء لكي أكتب لك, لأن بعض أجزاء اليوم لا تنتمي إلا لمن يفهمها. كنت حاضرة غائبة خلال الأسابيع الماضية, أحاول من خلالها المضي قدمًا نحو بداية جديدة أرسمها لنفسي.  أشعر بأن داخلي متعفن, بأن الجرذ الذي نحاول التخلص منه في المطبخ قد نفذ إلى داخلي ووجد رفقة طيبة هناك. لم نضطر إلى وضع سم أو تركيب مصيدة أو حتى ارتكاب مجزرة، لقد وجد مخرجًا مسالمًا لنفسه, بعيدًا عن الضجيج والأذى. أنا بخير, لكن الرطوبة تنخر داخلي, أجاهد لأن أحافظ على فكري متقدًا, لأن أعيد إشعال داراته الكهربائية المنطفئة. داخلي بات يشبه  قبوًا  رطبًا, يصلح لأن يكون منبتًا للفطر لا للفن. وهذا محبط جدًا, تلك المرحلة الانتقالية التي حدثتني عنها منذ سنة تقريبًا طالت، وقد باشر صبري القليل بالنفاذ. لقد ارتكبت خلالها أخطاءًا جسيمة لن أغفرها لنفسي حتى أنجح بتخطيها. هذه الأخطاء الجسيمة ومعظم أسئلتي الوجودية

يوميات \\ 8

لم أعد قادرة على قراءة نتف البياض التي تفصل الكلمة عن الأخرى. انعكاسي الذي أراه في المراة بت أتحاشى النظر فيه واستعضت عنه بانعكاس اصطدمت به على نافذة غرفتي المطلة على عالم لشدة قربه مني أصبح بعيداٌ بحيث لم تعد تطاله يداي . أبتلع دخان سيجارتي لتهضمه رئتي ببطىء وأحدق في عيناي التي تطلان على الفراغ وأغور أكثر في تجويفهما وأفكر بأن نهاية العالم قد وجدت خط بدايتها في بقع الظلام التي تسللت إلى بطانة عيناي.   لم يعد النوم يظلل تعبي, لم أعد أكترث لساعات الأرق الطويلة التي أقتلها بالتدخي ن وبأحلام اليقظة, أحلم بأني نائمة وبرجل اسمه مطر عيناه زرقاوان وشعره ضبابي وله نفس ثقيل ينفث من بين شفتيه غيوماً في أوعية مدببة صنعت من البلور الأخضر. افتح نافذتي الصغيرة وأعود لأحدق في السقف لاكتشف بأني لم أغفو, بل تأرجحت فقط على درجات الحلم وتعثرت بها لأعود إلى الأرق ولتضيع الأيام وتنجرف الى ضفاف عيني, لتتلخص حياتي بأكملها بثقبين أسفل الحاجبين و ظل تجعيدتين خجولتين تتطلان كلما ابتسمت.