التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مقهى, ونحن ودرويش مع الجريدة

المكان: مقهى الشركة القابعة في منطقة التجمعات في سحاب.     
الزمان: في لحظات فارغة كهذه, يصبح الزمن  متناقضاً مجرداً من أي معنى. تماماً ككوب الماء الذي على الطاولة المجاور لقهوتي. فارغاً, لا طعم له أو لون ولا رائحة.   

الطقس : الطقس متقلب مثلي. في العادة أصنف الطقس تبعاً لمزاجي الخاص. الذي يتراوح بين الكاّبة والسوداوية المطلقة, والصفاء التام.

المزاج العام: أشعر  بشيء من السلام يطغى على شعوري بالتعب 
والإرهاق والملل, وبحنين ثقيل لشيء مجهول, وبحاجة ماسةٍ للكتابةأو –ربما- للوقوع في الحب.



*.*.*

جلست على الكرسي الأخضر للكفيتيريا الرثة, أمامي طاولة برتقالية مستفزة -تبعث في داخلي مشاعر مضطربة تزيد من جنوني- لأحتسي كوباً من القهوة ولأنفث بعض السجائر, لعل شيئاً من التعب يغادرني كلما نفثت الدخان من رئتي الهزيليتين إلى الهواء.


*.*.*

لا أدري لماذا أستحضرت قصيدة درويش أمامي " مقهى, وأنت مع الجريدة جالسٌ.." وبدأت أردد شيئاً كلماتها بصوت شبه مسموع, "كم أنت حرٌ أيها المنسي في المقهى" وأنا أحاول تخيل محيط درويش حين كتب قصيدته تلك. ومقارنته بمحيطي الذي لا أستطيع أن أحدد معالمه حتى, لأن النافذة قذرة لدرجة تجعل من السماء الصافية في الخارج تبدو ضبابيةً.

 "لماذا الأفكار الصبيانية؟" أسأل نفسي. محال أن يكون درويش قد كتب قصيدة بتلك الروعة, في كفيتيريا شركة صناعية تقبع في أحد جهات سحاب النائية , لا يحيط بها سوى صخب المصانع وضجيج العمال الأسيوين, ورائحة بهارات الطهو البنغالية التي تنبعث من مطابخ المساكن المحيطة. ومحال أيضاً أن يكون مقابله وهو يكتب قصيدته الرقيقة رجل( ضخم البنية, أسمر البشرة, نصف أصلع, له كرش ومؤخرة مستديرة- لا تناسب رجلاً  على كل الأحوال-  غرابة أطواره تماثل غرابة مظهره) يرمقه بنظراتٍ مزعجة لا تفسر كالتي يرمقني إياها هذا الرجل. 

*.*.*

كدتُ أن أشتم -بصوت عالٍ- حقيبتي الكبيرة,التي لم تحوِ بداخلها دفتراً أو حتى قصاصة من الورق لأدون عليها شيئاً من الفوضى التي بدأت تتكاثر في رأسي.
سحبت منديلاً ورقياً, وبدأت بكتابة بعض الأفكار التي كنت سأندم حقاًإن لم أقم بحفظها بشكل ملموس.  فذاكرتي تعيسة كذاكرة تسعيني مصاب بلألزهايمر. لا أدري كيف استطعت استحضار كلمات درويش بكل وضوح حينها. بدأت أكتب على المنديل, وأنا أقول لنفسي " كم أنت منسي وحر في خيالك!".  

*.*.*

  ظهرتَ أمامي جالساً بسلام في الكرسي الأخضر مقابلي تنفث سيجارة وتحتسي رشفةً من قهوتي, لا تفصلنا سوى الطاولة البرتقالية المستفزة. "ليس لاسمك أو لوجهك ههنا عمل ضروري"أردد لنفسي بصوت يكاد أن يُسمع, "تكون كما تكون.. فلا صديق ولا عدو.." أحدث صورتك التي تراءت لي. كناوحدنا في تلك اللحظة, كأن المقهى الرث أصبح أثيراً شفافاً وصامتاً وخفيفاً, والعالم المجنون المحيط بنا فقاعة هشة من صابون قد تنفجر وتتلاشى في أي لحظة .  

هل ذكرت لك من قبل كم تثيرني طريقتك في التدخين, وكم تقتلني 
تفاصيلك الصغيرة؟. تخرج  سيجارة من العلبة, تأخذ موضعها بين أصابعك الجميلة, تطرق طرفها على الطاولة عدة طرقات خفيفة, تضعها بين شفاهك بخفة وتحضنها بين يديك برفق كأنك تمارس الحب معها, لتشعلها أخيراً وتنفث بضعة أنفاس منها بهدوء ولذة.  

                         *.*.*          
       
التفتُ خلفي لأبحث عن الموظف صاحب اللكنة المميزة الذي كان يتحدث بصوت مستنفر مشدداً على أن معيار ولاء الشعب لقياداته يقاس بعدد الأغاني الوطنية. أي ولاء هذا الذي  يقاس ببضع كلمات مصفوفة بخط مبعثر وبألحانٍ رخيصة؟ يا لبؤس ذاك الموظف المسكين. كم هو فارغ, فارغ من كل شيء حتى من الحياة بذاتها.

لم تأخذ استداراتي تلك جزءاً من الثانية, وكنت قد اختفيت. وبدأ الواقع يعود الى رتابته التي تقودني إلى الإنتحار.

 كعادتك. لم يكن حضورك أو  خيالك أو حتى غيابك يخلف وراءه شيئاً سوى بضع ملاحظات بائسة على منديل ورقي, وأعقاب سجائر 
مرمية في المنفضة, وتدوينة. 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأرسلت. // 5

عزيزي X, تحية خريفية أرسلها  إليك من غرفتي التي تطل على مدرسة زيد بن حارثة للذكور. أنتظر ليل الشتاء بفارغ الصبر, فهو فسحتي الوحيدة الهادئة  التي أخلو فيها لنفسي من صخب الحي الذي لا يهدأ طوال ساعات النهار. لذلك سأستغل الهدوء لكي أكتب لك, لأن بعض أجزاء اليوم لا تنتمي إلا لمن يفهمها. كنت حاضرة غائبة خلال الأسابيع الماضية, أحاول من خلالها المضي قدمًا نحو بداية جديدة أرسمها لنفسي.  أشعر بأن داخلي متعفن, بأن الجرذ الذي نحاول التخلص منه في المطبخ قد نفذ إلى داخلي ووجد رفقة طيبة هناك. لم نضطر إلى وضع سم أو تركيب مصيدة أو حتى ارتكاب مجزرة، لقد وجد مخرجًا مسالمًا لنفسه, بعيدًا عن الضجيج والأذى. أنا بخير, لكن الرطوبة تنخر داخلي, أجاهد لأن أحافظ على فكري متقدًا, لأن أعيد إشعال داراته الكهربائية المنطفئة. داخلي بات يشبه  قبوًا  رطبًا, يصلح لأن يكون منبتًا للفطر لا للفن. وهذا محبط جدًا, تلك المرحلة الانتقالية التي حدثتني عنها منذ سنة تقريبًا طالت، وقد باشر صبري القليل بالنفاذ. لقد ارتكبت خلالها أخطاءًا جسيمة لن أغفرها لنفسي حتى أنجح بتخطيها. هذه الأخطاء الجسيمة ومعظم أسئلتي الوجودية

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأُرسلت.

  صديقي البعيد والقريب جداً, ڤانيلا الأزرق ,  لا تتخيل مدى سعادتي حينما قررنا أن نتبادل الرسائل الورقية, لم أكتب رسالة حقيقية من قبل, كنت دائما أكتب الغراميات لأصدقاء أخي في عيد العشاق حينما كنا صغاراً, كنت أبحث عن أجمل الكلمات وأحاول صفها بخط مرتب. مع أني لم أجد أحداً أتبادل معه الرسائل المكتوبة, إلا اني طوال عمري كنت بانتظار واحدة. تماماً كذلك الانتظار الطفولي الملون بالأمل. هناك شيء حميمي ودافىء للغاية في الرسائل, اكتشفت ذلك من خلال قرأتي لحقيبة الرسائل التي احتفظ بها والدي من أيام دراسته في الاتحاد السوفيتي. رسائل من جدي وعماتي وعمي غيث الذي قرأت عنه, ورسائل عاطفية تبادلها والديّ أثناء فترة الخطوبة التي قضوها بعيداً عن بعضهما بحكم المسافة.  لقد سلمني أبي الحقيبة كلها بحكم هوسي بكل شيء مكتوب على قصاصة من ورق, حتى لو لم يحمل معنىً مفيداً.  هي حقيبة زرقاء صغيرة تحمل رائحة الورق المعتق الممزوج برائحة الحبر السائل الذي يملىء الأقلام التي تعاد تعبأتها. الكثير من الرسائل التي في داخلها اصفر ورقها وتمزقت اطرافها. لكنها بالنسبة لي, تشكل بوابةً صغيرة لعالم فقد أبطاله, ولقصص طم

يوميات \\ 8

لم أعد قادرة على قراءة نتف البياض التي تفصل الكلمة عن الأخرى. انعكاسي الذي أراه في المراة بت أتحاشى النظر فيه واستعضت عنه بانعكاس اصطدمت به على نافذة غرفتي المطلة على عالم لشدة قربه مني أصبح بعيداٌ بحيث لم تعد تطاله يداي . أبتلع دخان سيجارتي لتهضمه رئتي ببطىء وأحدق في عيناي التي تطلان على الفراغ وأغور أكثر في تجويفهما وأفكر بأن نهاية العالم قد وجدت خط بدايتها في بقع الظلام التي تسللت إلى بطانة عيناي.   لم يعد النوم يظلل تعبي, لم أعد أكترث لساعات الأرق الطويلة التي أقتلها بالتدخي ن وبأحلام اليقظة, أحلم بأني نائمة وبرجل اسمه مطر عيناه زرقاوان وشعره ضبابي وله نفس ثقيل ينفث من بين شفتيه غيوماً في أوعية مدببة صنعت من البلور الأخضر. افتح نافذتي الصغيرة وأعود لأحدق في السقف لاكتشف بأني لم أغفو, بل تأرجحت فقط على درجات الحلم وتعثرت بها لأعود إلى الأرق ولتضيع الأيام وتنجرف الى ضفاف عيني, لتتلخص حياتي بأكملها بثقبين أسفل الحاجبين و ظل تجعيدتين خجولتين تتطلان كلما ابتسمت.