التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قريبٌ من الواقع.

كنت قريباً جداً يومها, بقرب لم أعتده حتى بحضورك. بحثت عنك  كالمجنونة بين الوجوه الكثيرة. اقسم بأني كنت اسمع صوتك يقاطع ضجيج البلد التي سئمته, سمعته أجل. وكيف لي أن أنساه حتى بعد تلك الغربة. صوتك كان سيمفونيتي, ولا أتصور أن باستطاعة أحدهم أن يتخلى عن سيمفونيته.

 .كنت موقنة بأني سأراك يومها بيقني أن من مثلك لا يتغير


 رأيتك في كل الوجوه وفي كل الأماكن, في دخان السجائر التي نفثتها, وفي كوب الشاي الحلو الذي كان يزداد مرارة مع كل رشفة. وعلى الرصيف , وبين قصائد درويش,و بين  الإشارات الضوئية و لوحات الدكاكين وبين الزحام والروائح والضوضاء والفوضى, وبين رذاذ المطر وفي برك الماء, وبين كتب أبو عبدو. 
.وخلف مظلتي وظلي. وفي مخيلتي أيضاً, رأيتك


*.*.*

  تعمدت المشي البطيء يومها, عبرت الشوارع نفسها مرتين وأنا مستغرقة بمراجعة السيناريوهات التي حبكتها للقاءنا الأول بعد تلك المدة الطويلة.
 تراجعت عن ركوب حافلتين بعد أن صعدت لتفحص ركابها لا أكثر. وترجلت منهما لأعيد التحديق في الناس و تأمل الكاّبة من حولي بأنفاس مثقلة بالأمل والخيبة معاً  وانتظار حافلة أخرى مقبلة, لأعيد الكرة مجدداً.
 لم يقطع صفو عزلتي وإصراري  سوى نظرات المارة الغريبة التي سئمتها وأصوات السائقين المستنكرة تارة والمستغفرة تارة أخرى لحججي المفتعلة والتافهة للترجل من حافلاتهم.

*.*.*

ركبت الحافلة الثالثة, لأعود إلى المنزل. وأنا أجر حبال خيبتي بك وبنفسي, وبهذه الدنيا التعيسة وبأملي الفارغ الذي لا جدوى منه.

*.*.* 

رأيتك يومها.
وحدسي لا يخيب.

انهيت مناوبتي المسائية التي يفترض أن تنتهي في تمام الحادية عشرة.
لمحتك منذ بداية الشارع. عرفتك من خطواتك المتعثرة,  وانحناءة ظهرك التي تظهر عندما تكون منشغلاً بفكرة ما أو بمحاربة شيطان أو اثنين.
ربما مغادرتي للعمل يومها أبكر بعشر دقائق من المعتاد كانت ضرباً من الحظ, أو عثرةً من القدر.
في تلك اللحظة بالذات, أيقنت بأن لعبة الأقدار لعبة قذرة, أكبر مني ومنك ومن ما كان بيننا, لا بل أكبر من هذا العالم التعيس والبائس الذي نعيش أغلبه فقط لأننا مرغمون. 


*.*.*

أوقفت السيارة في نهاية الشارع, وانتظرتك لتقترب, لأطبّق إحدى تلك السيناريوهات التي نصَّ معظمها على صفعك وشتمك, وترجمة الصمت والخذلان الذي التزمته لأجلك إلى كلمات مسموعة منعني جُبني من قولها لك حينها, لأني –ربما- أحببتك بما يكفي  لعدم أذيتك, وتحمّل أذيتك أنت.

*.*.*
قرأت التردد بين عيونك المخمورة, إلا أنك رددت التحية.

*.*.*

 بكيتُ كطفلة ساذجة حين تلاقت نظراتنا. ليس شوقاً بك فقط, بل لأن فرصتي الوحيدة للانتقام( والتي سهرت ليالٍ بطولها وأنا أنسج أبغض وأملّ تفاصيلهاأثناءانتظاري لحلول تلك الصدفة التي سيحملها هذا القدر الحقير بصبر قاتلة متمرسة)سقطت وتبخرت لحظة إيقافي للسيارة اللعينة في ذلك الشارع اللعين ونظرت في عينيك الجميلتين واللعينتين في الوقت ذاته.
 –كالغبية- عانقتك وقلت لك  كم اشتاقك وكم أحبك. 

*.*.*
تحدثنا قليلاً, وتشاركنا القليل الكثير الذي عشناه في غياب بعضنا. قلت لي بأنك تغيرت, وبأنك كبرت.
 كل شيء فيك كان كما هو ولم يتغير, عدا أنانيتك وحبك لنفسك , فهمااللذان كبرا –كثيراً-.
*.*.*
يومها خسرت شيئاً من نفسي -مجدداً- , والشظايا التي أمضيت شهوراً محاولةً دفنها هناك عميقاً, تحولت إلى فتات موجع لا يمكنني تجاهله هذه المرة.  

يومها قُتلت مرتين , كُسِرت نفسي مرتين, وبُتِرت روحي مرتين, وجررت حبال الخيبة الثقيلة خلفي مرتين.

عدت إلى فراشي, مجبرةً رئتيّ  على أخذ شهيق أخر وأخر وأخر, لحين مجيء  تلك الساعة التي ستتستنشقان الهواء فيها من ملئهما, محبةً بهذاالكون القبيح.  




تعليقات

  1. Nice, I particularly liked the 3rd (paragraph)

    That pic is from fight club, correct?

    ردحذف
    الردود
    1. Thank youu ((:

      Exactly : "You met me at a very strange time in my life."
      That's the exact line.
      وهيك

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأرسلت. // 5

عزيزي X, تحية خريفية أرسلها  إليك من غرفتي التي تطل على مدرسة زيد بن حارثة للذكور. أنتظر ليل الشتاء بفارغ الصبر, فهو فسحتي الوحيدة الهادئة  التي أخلو فيها لنفسي من صخب الحي الذي لا يهدأ طوال ساعات النهار. لذلك سأستغل الهدوء لكي أكتب لك, لأن بعض أجزاء اليوم لا تنتمي إلا لمن يفهمها. كنت حاضرة غائبة خلال الأسابيع الماضية, أحاول من خلالها المضي قدمًا نحو بداية جديدة أرسمها لنفسي.  أشعر بأن داخلي متعفن, بأن الجرذ الذي نحاول التخلص منه في المطبخ قد نفذ إلى داخلي ووجد رفقة طيبة هناك. لم نضطر إلى وضع سم أو تركيب مصيدة أو حتى ارتكاب مجزرة، لقد وجد مخرجًا مسالمًا لنفسه, بعيدًا عن الضجيج والأذى. أنا بخير, لكن الرطوبة تنخر داخلي, أجاهد لأن أحافظ على فكري متقدًا, لأن أعيد إشعال داراته الكهربائية المنطفئة. داخلي بات يشبه  قبوًا  رطبًا, يصلح لأن يكون منبتًا للفطر لا للفن. وهذا محبط جدًا, تلك المرحلة الانتقالية التي حدثتني عنها منذ سنة تقريبًا طالت، وقد باشر صبري القليل بالنفاذ. لقد ارتكبت خلالها أخطاءًا جسيمة لن أغفرها لنفسي حتى أنجح بتخطيها. هذه الأخطاء الجسيمة ومعظم أسئلتي الوجودية

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأُرسلت.

  صديقي البعيد والقريب جداً, ڤانيلا الأزرق ,  لا تتخيل مدى سعادتي حينما قررنا أن نتبادل الرسائل الورقية, لم أكتب رسالة حقيقية من قبل, كنت دائما أكتب الغراميات لأصدقاء أخي في عيد العشاق حينما كنا صغاراً, كنت أبحث عن أجمل الكلمات وأحاول صفها بخط مرتب. مع أني لم أجد أحداً أتبادل معه الرسائل المكتوبة, إلا اني طوال عمري كنت بانتظار واحدة. تماماً كذلك الانتظار الطفولي الملون بالأمل. هناك شيء حميمي ودافىء للغاية في الرسائل, اكتشفت ذلك من خلال قرأتي لحقيبة الرسائل التي احتفظ بها والدي من أيام دراسته في الاتحاد السوفيتي. رسائل من جدي وعماتي وعمي غيث الذي قرأت عنه, ورسائل عاطفية تبادلها والديّ أثناء فترة الخطوبة التي قضوها بعيداً عن بعضهما بحكم المسافة.  لقد سلمني أبي الحقيبة كلها بحكم هوسي بكل شيء مكتوب على قصاصة من ورق, حتى لو لم يحمل معنىً مفيداً.  هي حقيبة زرقاء صغيرة تحمل رائحة الورق المعتق الممزوج برائحة الحبر السائل الذي يملىء الأقلام التي تعاد تعبأتها. الكثير من الرسائل التي في داخلها اصفر ورقها وتمزقت اطرافها. لكنها بالنسبة لي, تشكل بوابةً صغيرة لعالم فقد أبطاله, ولقصص طم

يوميات \\ 8

لم أعد قادرة على قراءة نتف البياض التي تفصل الكلمة عن الأخرى. انعكاسي الذي أراه في المراة بت أتحاشى النظر فيه واستعضت عنه بانعكاس اصطدمت به على نافذة غرفتي المطلة على عالم لشدة قربه مني أصبح بعيداٌ بحيث لم تعد تطاله يداي . أبتلع دخان سيجارتي لتهضمه رئتي ببطىء وأحدق في عيناي التي تطلان على الفراغ وأغور أكثر في تجويفهما وأفكر بأن نهاية العالم قد وجدت خط بدايتها في بقع الظلام التي تسللت إلى بطانة عيناي.   لم يعد النوم يظلل تعبي, لم أعد أكترث لساعات الأرق الطويلة التي أقتلها بالتدخي ن وبأحلام اليقظة, أحلم بأني نائمة وبرجل اسمه مطر عيناه زرقاوان وشعره ضبابي وله نفس ثقيل ينفث من بين شفتيه غيوماً في أوعية مدببة صنعت من البلور الأخضر. افتح نافذتي الصغيرة وأعود لأحدق في السقف لاكتشف بأني لم أغفو, بل تأرجحت فقط على درجات الحلم وتعثرت بها لأعود إلى الأرق ولتضيع الأيام وتنجرف الى ضفاف عيني, لتتلخص حياتي بأكملها بثقبين أسفل الحاجبين و ظل تجعيدتين خجولتين تتطلان كلما ابتسمت.