التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جدي ومدينة الليغو بين الماضي والحاضر

كنت في السابعة من عمري حين قرر جدي اصطحابي لوسط البلد لأول مرة. أقلني من المدرسة قبيل انتهاء الدوام وأجلسني على يمينه في المرسيدس خاصته. مازلت أذكر قيادته الهادئة ووجه المبتسم وهو يدندن أغاني أم كلثوم طوال الطريق. وكيف كان يتوقف بين الفينة والأخرى على جانب الطريق إما ليقلب الشريط أو ليفتح علبة جديدة من سجائر "الوينستون" أو ليصحح عقاله الذي يكون قد مال قليلاً إلى الوراء بفعل الهواء.
 لم أعتد أن أرى جدي هكذا, لطالما كان رجلاً بطبع عنيد وصارم
 يفضل الجلوس بمكتبه ليل نهار ليحتسي القهوة ويقرأ الصحف والكتب. كانت جدتي تتذمر من جلساته الطويلة أمام نشرات الأخبار وصفحات الكتب وتصف عزلته تلك بالحبس الإنفرادي. كنت في مكتبه مرة أرسم وألون حين صرخت جدتي بنبرة غاضبة " يا بو غيث التليفون جنبك برن ليش ما ترد عليه؟" تجاهلها ليكمل قرائته ونظرت إلي أنا الأخرى نظرةً مستاءة وأغلقت الباب وهي تردد عبارات غير مفهومة.

                                            
                          *.*.*               

بدت معالم المكان تتضح شيئاً فشيئاً, أصوات الباعة التي تتداخل فيما بينها روائح الشواء والذرة المسلوقة والبخور, السيارات التي كلما تقدمنا للأمام كانت تكثر وتكثر, والبيوت المصطفة في الأفق كانت تبدو لي وكأنها تشكل مدينة مصنوعةٌ من "الليغو". كل تلك التفاصيل الدقيقة اختزلتها ذاكرتي الصغيرة.
كنت أتابع المشهد من شباك المرسيدس بنظرات فضولية. ابتسم لي جدي وبدأ يُعرفني بأسماء المباني والأسواق المحاذية لنا. أشار بسبابته لسوق الحرمية المزدحم بالناس والبضائع, ومستشفى "الطلياني" الواقع خلفه, والذي ولّدت فيه جدتي عمي (غيث) أيام سكنهم في جبل عمان.
لم يتغير مدخل البلد عما كان عليه في السابق, فالمستشفى مع أن لون بناءه أصبح باهتاً واللوحة الحديدية التي تحمل اسمه -الذي بالكاد بات مقروءً- تاّكلت  بفعل الصدأ, إلا أنه ما زال قائماً حتى الاّن. والإزدحام والسوق والروائح والضجةو وبيوت "الليغو" ما زالت كما هي, لم تتغير.

*.*.*

أوقف جدي المرسيدس في موقف قريب من الجامع الحسيني, فتح بابي وأحكم قبضته على يدي الصغيرة وبدأنا نمشي. لم أجرؤ على الإعتراض. فبمقدار محبتي له كنت أهابه. كان جدي قاضياً حكم على ثلاثة عشر مجرماً بالإعدام خلال مسيرته المهنية. كانت تلك الحقيقة كفيلة بأن تمنعني حتى من التفكير بعصيان أوامره.
يلاصق بوابة الجامع مكتبة دينية تحمل اسمه ومحل للعطارة وأخر لتركيب العطور, وبجانب المسجد شارع فرعي أغلق نهائياًوسُقف سطحه بالشوادر ليتحول إلى سوق تملئه بسطات الخضار وأدوات المطبخ والملابس المستعملة. أما بالنسبة للشارع الرئيسي أمام الجامع, فإنه دائم الإزدحام بالناس و السيارات والحافلات المحملة المتوجهة إلى محطة رغدان. والمحال المصطفة المقابلة له, تحولت أغلبها إلى بازارات سياحية بعد أن كانت صالونات للحلاقة ومحالاً للأقمشة.

أسرع جدي الخطى ليتجه بي إلى صديقه أبو علي.أبو علي صاحب كشك للكتب في سوق الذهب, تربطه بجدي علاقة وطيدة نمت مع الأيام كون جدي لم يقتني كتبه إلا من كشكه. كنت أمشي وأنا في حيرة من أمري فمشهد الشارع كان أشبه بمن وضع مراّة ضخمة تكرر الصورة لكن باتجاه معاكس, تكثر محال الصاغة وتتشابه واجهاتها على جهتي الشارع.

اجتمع جدي أمام الكشك مع رفقاءه المحامين والقضاة المتقاعدين مثله.ألهاني حينها بكوب من عصير القصب,ووقفت أراقب الرجال بهدوء حين تعلو أصواتهم ويحتد الكلام بينهم. لم يكن يحبذ جدي الجلسة بالمقاهي الشعبية التي تكثر في المكان, حين سألته في طريق العودة "جدو, ليش ما بتروح عالقهوة مع صحابك بدل ما اضلو واقفين؟" وبخني بشدة وأصر بأن السياسة والثقافة لا تناقش بين قرقعة الأراجيل وأحجار النرد. لم أفهمه حينها, لكني الاّن كبرت وفهمت.  
رحل جدي, وبقي أبو علي, وكشكه الصغير كبر, ورفوفه كثرت, والمساحة الضيقة من ذلك الرصيف تحولت إلى ملتقى دائم لمثقفي المدينة وللشباب الفضولين الذين يستمعون لنقاشاتهم. تمكنت الحضارة الجديدة من التسرب إلى المكان, فالمقاهي الشعبية تحولت إلى شبابية,واستبدلت أم كلثوم بفرق الجاز والروك.
*.*.*
تكثر الأزقة الضيقة في وسط البلد. كان جدي يمشي مسرعاً إلى وجهته غير مبالٍ بالنظر سوى إلى الأمام, كنت أنظر إلى البنايات العالية, وأراقب انعكاس ضوء الشمس الذي يتكسر على النوافذ الزجاجية وكيف يتسلل عبر المساحات الضيقة ليكسر رتابة الظل على الأرض المصبوبة بالأسمنت. بعض تلك البنايات كان فندقاً, أو مبنى يضم عيادات ومكاتب, تحول معظمها إلى مساحات مهجورة بنوافذ محطمة.

أخذني جدي إلى (مطعم هاشم), جلسنا على طاولة بلاستيكية صغيرة في الصالة الداخلية لينعم جدي بقليل من السكينة بعيداً عن الضجة التي ترافق الطاولات الخارجية المحاذية للشارع. طلب كوبين من الشاي وصحناً من الحمص وأخر من الفلافل ورغيفاً من الخبز. كان جدي يتبع حمية صارمة تمنعه من تناول هذا الطعام, فانشغل عني بقراءة كتبه التي اشتراها من كشك أبو علي وأكلت أنا لحد التخمة.
يوحد مطعم هاشم بمساحته الضيقة أطياف المجتمع الأردني بأكمله. فصحن الفلافل وكوب الشاي بالنعنع يجمع الغني والفقير على طاولة واحدة.

*.*.*
يمشي الزمن ببطىء في مدينة "الليغو" بعكس وتيرته السريعة المعتادة. فباتت مقصدا للجيل الفضولي الذي يعيش في حالة بحث مستمرة عن الجديد والمغامرة. ما أن يصلو إليها, حتى يكتشفوا أنفسهم وجزءاً من هويتهم التي فقدت بين الماضي والحاضر.   

تعليقات

  1. Nice memories. Cherished times indeed.
    Allah yir7amoh. Lego is .. EVERYWHERE nowadays!

    ردحذف
  2. Thank youu, your comments always brighten up my blog ((:

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأرسلت. // 5

عزيزي X, تحية خريفية أرسلها  إليك من غرفتي التي تطل على مدرسة زيد بن حارثة للذكور. أنتظر ليل الشتاء بفارغ الصبر, فهو فسحتي الوحيدة الهادئة  التي أخلو فيها لنفسي من صخب الحي الذي لا يهدأ طوال ساعات النهار. لذلك سأستغل الهدوء لكي أكتب لك, لأن بعض أجزاء اليوم لا تنتمي إلا لمن يفهمها. كنت حاضرة غائبة خلال الأسابيع الماضية, أحاول من خلالها المضي قدمًا نحو بداية جديدة أرسمها لنفسي.  أشعر بأن داخلي متعفن, بأن الجرذ الذي نحاول التخلص منه في المطبخ قد نفذ إلى داخلي ووجد رفقة طيبة هناك. لم نضطر إلى وضع سم أو تركيب مصيدة أو حتى ارتكاب مجزرة، لقد وجد مخرجًا مسالمًا لنفسه, بعيدًا عن الضجيج والأذى. أنا بخير, لكن الرطوبة تنخر داخلي, أجاهد لأن أحافظ على فكري متقدًا, لأن أعيد إشعال داراته الكهربائية المنطفئة. داخلي بات يشبه  قبوًا  رطبًا, يصلح لأن يكون منبتًا للفطر لا للفن. وهذا محبط جدًا, تلك المرحلة الانتقالية التي حدثتني عنها منذ سنة تقريبًا طالت، وقد باشر صبري القليل بالنفاذ. لقد ارتكبت خلالها أخطاءًا جسيمة لن أغفرها لنفسي حتى أنجح بتخطيها. هذه الأخطاء الجسيمة ومعظم أسئلتي الوجودية

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأُرسلت.

  صديقي البعيد والقريب جداً, ڤانيلا الأزرق ,  لا تتخيل مدى سعادتي حينما قررنا أن نتبادل الرسائل الورقية, لم أكتب رسالة حقيقية من قبل, كنت دائما أكتب الغراميات لأصدقاء أخي في عيد العشاق حينما كنا صغاراً, كنت أبحث عن أجمل الكلمات وأحاول صفها بخط مرتب. مع أني لم أجد أحداً أتبادل معه الرسائل المكتوبة, إلا اني طوال عمري كنت بانتظار واحدة. تماماً كذلك الانتظار الطفولي الملون بالأمل. هناك شيء حميمي ودافىء للغاية في الرسائل, اكتشفت ذلك من خلال قرأتي لحقيبة الرسائل التي احتفظ بها والدي من أيام دراسته في الاتحاد السوفيتي. رسائل من جدي وعماتي وعمي غيث الذي قرأت عنه, ورسائل عاطفية تبادلها والديّ أثناء فترة الخطوبة التي قضوها بعيداً عن بعضهما بحكم المسافة.  لقد سلمني أبي الحقيبة كلها بحكم هوسي بكل شيء مكتوب على قصاصة من ورق, حتى لو لم يحمل معنىً مفيداً.  هي حقيبة زرقاء صغيرة تحمل رائحة الورق المعتق الممزوج برائحة الحبر السائل الذي يملىء الأقلام التي تعاد تعبأتها. الكثير من الرسائل التي في داخلها اصفر ورقها وتمزقت اطرافها. لكنها بالنسبة لي, تشكل بوابةً صغيرة لعالم فقد أبطاله, ولقصص طم

يوميات \\ 8

لم أعد قادرة على قراءة نتف البياض التي تفصل الكلمة عن الأخرى. انعكاسي الذي أراه في المراة بت أتحاشى النظر فيه واستعضت عنه بانعكاس اصطدمت به على نافذة غرفتي المطلة على عالم لشدة قربه مني أصبح بعيداٌ بحيث لم تعد تطاله يداي . أبتلع دخان سيجارتي لتهضمه رئتي ببطىء وأحدق في عيناي التي تطلان على الفراغ وأغور أكثر في تجويفهما وأفكر بأن نهاية العالم قد وجدت خط بدايتها في بقع الظلام التي تسللت إلى بطانة عيناي.   لم يعد النوم يظلل تعبي, لم أعد أكترث لساعات الأرق الطويلة التي أقتلها بالتدخي ن وبأحلام اليقظة, أحلم بأني نائمة وبرجل اسمه مطر عيناه زرقاوان وشعره ضبابي وله نفس ثقيل ينفث من بين شفتيه غيوماً في أوعية مدببة صنعت من البلور الأخضر. افتح نافذتي الصغيرة وأعود لأحدق في السقف لاكتشف بأني لم أغفو, بل تأرجحت فقط على درجات الحلم وتعثرت بها لأعود إلى الأرق ولتضيع الأيام وتنجرف الى ضفاف عيني, لتتلخص حياتي بأكملها بثقبين أسفل الحاجبين و ظل تجعيدتين خجولتين تتطلان كلما ابتسمت.