التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مشاهد مبعثرة من مخيم الزعتري #1


عند مدخل العيادة الخاصة بالجمعية التي من خلالها تمكنت الوصول إلى المخيم, أول ما رأيته على الباب كان طيف ما تبقى من طفلة تهذي من الحمى, مُحكمةً قبضتها على سياج "الدربزين" الذي يفرض على مراجعيه إلتزام الدور. توقف الزمان و المكان من حولي, لم أعد أسمع شيئاً من أنين المرضى الذين توحد صوتهم وصمتهم وأنا أبحلق في عينيها الكبيرتين الغائرتين من المرض, نظرت إليّ نظرةً ثاقبة كأنها تخبرني بأن نظرات الحزن و"الشفقة" التي أبديتها لها –والتي رأت منها الكثير- لن تعيد إليها وطنها أو بيتهاأو سريرها ولن تشفيها من الحمى. رأت روحي العارية والعاجزة, ذعرت, فلم يسبق قط أن رأى أحدهم روحي عاريةً كما رأتها هيَ. خجلت, وأسرعتُ الخطى الى الداخل وأنا أجرُّ معي سلاسل العجز والخيبة.

*.*.*

انتابتني نوبةٌ من الذعر الصامتة, فلوهلةٍ من الزمن حسبتُ بأن سائق السيارة قد سلك اتجاهاً خاطئاً, و بأننا في وسط المجهول .أنّبني ضميري, و تمنيت للحظة لو أنيّ سمعتُ كلمة أمي ونسيت موضوع هذه الزيارة. شعرتُ بالذنب من عنادي و إصراري الشديدين الذي أبديته لها قبل مغادرتي المنزل.

كل مارأيته حولي حينها كان مجرداً من مظاهر الحياة, كان القحط و الفراغ, يحيط بنا من كل الجوانب. وفكرة أن تحمل هذه الأرض الميتةالاف الأنفاس على سطحها بدت لي شيئاً من 
المستحيل لا بل ضرباً من الجنون.
 أخرَسَ المشهد الفوضى التي كانت تجرفني من فكرة لأخرى. فكل ما رأته عينيّ كان أفقا من البياض الممتد الى المالانهاية. كانت 
تلك خيم اللاجئيين السوريين.

*.*.*

اصطحبني أبو نادر بأمر من مدير المركز الصحي في جولةٍ في قسم من المخيم. كان أبو نادر بمثابة مختار ذلك القسم, كان يرتدي قميصاً مقلماً و بنطالاً أسوداً مكوياً بعناية, كان متحدثاً طليقاً, ويجيب عن أسئلتي الكثيرة بكل رحابة صدر و يريني أرجاء معمورته بكل فخر واعتزاز ويقف أمام عدسة الكاميرا خاصتي وقفة خبير. 
أذكر بوضوح حينما سألته:
- "أبو نادر, عندك أمل بالرجعة؟؟"
أجاب بكل عفوية و بشيء من السذاجة:
- " اي عندي أمل. بس شكلا الرجعة مطولة.أوباما قال هيك, طالما أوباما قال هيك, يعني هيك حيصير. وعم نستنى أوباما يقول رجعوا, بس يقول, منرجع بأذن الله".

*.*.*

 لم أتصور بأن بوابة المخيم الرئيسية ستكون في هذا الإزدحام, ضجيج السيارات والحافلات وأصوات الناس تتداخل فيما بينها صيحات سائقي الحافلات التي تطالب الركاب الذين ينوون المغادرة بالأسراع, حافلات تنطلق و أخرى تحمّل,كان منظرا يضج بالحياة. لم أحسب بأن ما كان ينتظرني هو مدينة بحد ذاتها وليس مخيما.
مرت السيارة بحافلة كانت نافذتها ملاصقة لنافذتي, رأيت رأس طفل يتدلى منها مبتسما. لعلها كانت أول مرة تسنح له الفرصة لمغادرة أسوار المخيم, ويكتشف العالم الجديد الذي لطالما سمع عنه, لكن لم يراه من قبل.


*.*.*

دخلتُ إلى العيادة, كنت أسمع وأرى وألمس بل حتى أشم الألم في عيونهم وفي أنين أرواحهم و صيحات أجسادهم وفي رطوبة هواء 
.الغرفة وفي جدرانها
 وجوه الناس كانت خالية من أيِّ تعابير. وجوهٌ
 عارية,صامتة,فارغة,مستسلمة,اعتادت الإنتظار.
 الإنتظار لرؤية الطبيب, انتظار استلام المعونات, انتظار استلام العلاج الذي وصفه الطبيب, انتظار "أوباما" ليطل بحلته البهية على شاشتهم الصغيرة ليبشرهم بخبر "العودة", و الأهم من ذلك, بانتظار وطن. وطن قد غاب عنهم طويلاً,لعله يعود يوماً.
    








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأرسلت. // 5

عزيزي X, تحية خريفية أرسلها  إليك من غرفتي التي تطل على مدرسة زيد بن حارثة للذكور. أنتظر ليل الشتاء بفارغ الصبر, فهو فسحتي الوحيدة الهادئة  التي أخلو فيها لنفسي من صخب الحي الذي لا يهدأ طوال ساعات النهار. لذلك سأستغل الهدوء لكي أكتب لك, لأن بعض أجزاء اليوم لا تنتمي إلا لمن يفهمها. كنت حاضرة غائبة خلال الأسابيع الماضية, أحاول من خلالها المضي قدمًا نحو بداية جديدة أرسمها لنفسي.  أشعر بأن داخلي متعفن, بأن الجرذ الذي نحاول التخلص منه في المطبخ قد نفذ إلى داخلي ووجد رفقة طيبة هناك. لم نضطر إلى وضع سم أو تركيب مصيدة أو حتى ارتكاب مجزرة، لقد وجد مخرجًا مسالمًا لنفسه, بعيدًا عن الضجيج والأذى. أنا بخير, لكن الرطوبة تنخر داخلي, أجاهد لأن أحافظ على فكري متقدًا, لأن أعيد إشعال داراته الكهربائية المنطفئة. داخلي بات يشبه  قبوًا  رطبًا, يصلح لأن يكون منبتًا للفطر لا للفن. وهذا محبط جدًا, تلك المرحلة الانتقالية التي حدثتني عنها منذ سنة تقريبًا طالت، وقد باشر صبري القليل بالنفاذ. لقد ارتكبت خلالها أخطاءًا جسيمة لن أغفرها لنفسي حتى أنجح بتخطيها. هذه الأخطاء الجسيمة ومعظم أسئلتي الوجودية

من الرسائل الحقيقية التي كتبت وأُرسلت.

  صديقي البعيد والقريب جداً, ڤانيلا الأزرق ,  لا تتخيل مدى سعادتي حينما قررنا أن نتبادل الرسائل الورقية, لم أكتب رسالة حقيقية من قبل, كنت دائما أكتب الغراميات لأصدقاء أخي في عيد العشاق حينما كنا صغاراً, كنت أبحث عن أجمل الكلمات وأحاول صفها بخط مرتب. مع أني لم أجد أحداً أتبادل معه الرسائل المكتوبة, إلا اني طوال عمري كنت بانتظار واحدة. تماماً كذلك الانتظار الطفولي الملون بالأمل. هناك شيء حميمي ودافىء للغاية في الرسائل, اكتشفت ذلك من خلال قرأتي لحقيبة الرسائل التي احتفظ بها والدي من أيام دراسته في الاتحاد السوفيتي. رسائل من جدي وعماتي وعمي غيث الذي قرأت عنه, ورسائل عاطفية تبادلها والديّ أثناء فترة الخطوبة التي قضوها بعيداً عن بعضهما بحكم المسافة.  لقد سلمني أبي الحقيبة كلها بحكم هوسي بكل شيء مكتوب على قصاصة من ورق, حتى لو لم يحمل معنىً مفيداً.  هي حقيبة زرقاء صغيرة تحمل رائحة الورق المعتق الممزوج برائحة الحبر السائل الذي يملىء الأقلام التي تعاد تعبأتها. الكثير من الرسائل التي في داخلها اصفر ورقها وتمزقت اطرافها. لكنها بالنسبة لي, تشكل بوابةً صغيرة لعالم فقد أبطاله, ولقصص طم

يوميات \\ 8

لم أعد قادرة على قراءة نتف البياض التي تفصل الكلمة عن الأخرى. انعكاسي الذي أراه في المراة بت أتحاشى النظر فيه واستعضت عنه بانعكاس اصطدمت به على نافذة غرفتي المطلة على عالم لشدة قربه مني أصبح بعيداٌ بحيث لم تعد تطاله يداي . أبتلع دخان سيجارتي لتهضمه رئتي ببطىء وأحدق في عيناي التي تطلان على الفراغ وأغور أكثر في تجويفهما وأفكر بأن نهاية العالم قد وجدت خط بدايتها في بقع الظلام التي تسللت إلى بطانة عيناي.   لم يعد النوم يظلل تعبي, لم أعد أكترث لساعات الأرق الطويلة التي أقتلها بالتدخي ن وبأحلام اليقظة, أحلم بأني نائمة وبرجل اسمه مطر عيناه زرقاوان وشعره ضبابي وله نفس ثقيل ينفث من بين شفتيه غيوماً في أوعية مدببة صنعت من البلور الأخضر. افتح نافذتي الصغيرة وأعود لأحدق في السقف لاكتشف بأني لم أغفو, بل تأرجحت فقط على درجات الحلم وتعثرت بها لأعود إلى الأرق ولتضيع الأيام وتنجرف الى ضفاف عيني, لتتلخص حياتي بأكملها بثقبين أسفل الحاجبين و ظل تجعيدتين خجولتين تتطلان كلما ابتسمت.